الأربعاء، 20 مارس 2013

العزلة في فضاءات الصمت
قراءة في مجموعة  "أرتب فوضى سكوني" 
للأديب أحمد يحيى القيسي

مجلة سيسرا الثقافية العدد التاسع ذو الحجة 1433هـ - أكتوبر 2012م


د.محمد مصطفى حسانين *

في كثير من الأحيان ترتبط الخطى الأولى ، والبدايات الممهدة في ميدان الإبداع ببعض التلعثم والقفز في الهواء ، أو كثرة الفجوات التي تتخلل البناء المنجز في المرحلة المبكرة ، حيث الرؤية الغضة تناوشها بعض أوهام العبور المكتمل لشاطئ النص المختلف ، وفي ديوانه الأول " أرتب فوضى سكوني " ، يبدو الشاعر السعودي الشاب أحمد يحيى القيسي ، وهو يحاول تجاوز العثرات المرتبطة بالبدايات ، كما يبدو ، في اللحظة نفسها ، بعيدا عن غرور القفز في الفراغ ، وإن كان بين القطبين يبدو متوجساً قلقاً ومغترباً ، أو هو مرهق بالتمني في خطابه الشعري ، يقول:

مرهق بالتمني … وأدواته التي ساقت كل أحاديثه

حتى أنهكتها في الفراغ

كان يتكئ على خطوته الأولى

- تلك التي أثارت حوله عاصفة الكلام

حتى انتبذ من ذاته مكاناً قصيا -

يفترش مساحة من غروره

ما لبثت أن وطأتها سنوات الراكضين

إلى عليائهم ……………….( ص 15 )



يتجاوز القيسي العثرات الأولى للكتابة الشعرية ، عبر ما نلحظه من محاولة التماس الضروب الأقرب إلى الوضوح أكثر من البحث في متاهات القول ، وكأنه تخير الطرق الآمنة ملاذا لصوغ عزلته ، وبالرغم من بساطة لغته ، تنطوي نصوصه على مكون شعري نابض ، تتدفق فيه انسيابياً عواطف وأحاسيس وتأملات ما تزال تحتفظ ببكارة السؤال فيها ، بالرغم من إحاطتها أحياناً بالمباشرة والتبيين دون المواربة .

ولعل ما يؤكد محاولة القيسي مجاوزة البدايات المتلعثمة هي قدرته الإبداعية على حسم قراره النوعي ، بانحيازه لنوع شعري ليس على الدوام موضع ترحيب ، فضلاً عن كون قصيدة النثر – كما هو معروف – ليست النوع الشعري الذي يمكن لشاعر في بداية طريقه أن يراهن عليه بهدف الصعود والظهور عبر المحافل والاحتفاليات ، التي تستحوذ عليها القصيدة العمودية برصيدها الشفوي وجهازها التعبيري المصاحب.

ويأتي اختيار القيسي لعبارة شعرية مكثفة دليلاً آخر على تخطي عثرة البداية ، فعبارته موجزة ومتوازنة بين الكثافة والشفافية ، أي بين الوضوح حيث ينتحر المعنى أو الغموض حيث اختناقه ، وبجانب ذلك ، نجد قدرته على بناء عالم شعري على بساطته يبدو متماسكاً ، وتلم جوانبه تيمات وحوافز دلالية متقاربة ، فضلاً عن انتمائها لموضوعات متواشجة مرجعياً ، فلا تبدو بين قصائده فجوات واسعة أو انعطافات مفاجئة تخل بطبيعة المجموع . ولعل وعيه بهذا الجانب ، هو ما جعله يفصل مجموعة القصائد الختامية من ديوانه عما سبقها فجعلها تحت عنوان " فضاء آخر" ، مما يبرهن على الحس الواعي بعملية الاختيار .

وهو ما جعله مرة أخرى ينشر قصائده تحت مسمى " شعر" لكون هذا الفضاء المغاير يخل ببنية الديوان على الأقل أسلوبياً .



انسجام إيقاعي :

وبالرغم من تبني القصائد للنسق النثري وابتعادها عن العروضي والوزني ، ثمة رغبة واضحة في الديوان تكاد تشي بنفسها من أول وهلة ، تتمثل في القبض على وتر إيقاعي غائر في بنية عبارته ، يجلوه التناسق التركيبي بين العبارات وانسجام مفرداتها ، بعيداً عن جلب المفردات القلقة أو التقابلات الحادة المفاجئة أو الانتقالات العابرة ، أو الاعتماد على الاندفاع النحوي لتراكيب مبتورة ، وغياب تلك النتوء عن جسد العبارة الشعرية يعطيها قدراً من التواتر والبساطة التي تشعر بانسياب الكلام في الزمن دون تعقد ، ومما يرشح تلك الجمل إيقاعياً هو بعدها عن التفريع والتراكم وميلها نحو القصر .

وأحياناً ينبثق الإيقاع اعتماداً على كسر الانتظام الوزني لنسق التفعيلة المعتاد في تتابعه ، والميل به نحو كسور وزنية ، ولكنها تمتلك إيقاعاً يقوم على ما يشبه المزج التفعيلي ، ويظهر ذلك البعد بخاصة في عملية التناوب والتبادل بين تفعيلتي المتدارك والمتقارب ( فاعلن – فعولن ) أو العكس ، وهو تكنيك لجأت إليه قصيدة النثر في بداياتها وما لبثت أن تخطته سريعاً ، ويمكن أن نجد هذا في كثير من نصوصه ، يقول :

- من الثقب المهمل في زاوية الباب

تختال يرقاتُ الضوء

وهي تنكأ صحوي ….……….( ص25)


- يا لصوتك حين يسري منبعثاً من تضاريس الزمن

لحناً شجياً تعزفه الذاكرة من ناي عتيق

ليغمرني خشوعاً…….( ص 48 )

بقدر يسير من التأمل يمكن رؤية بقايا إيقاعية لتفعيلة فعولن في تناوبها مع فاعلن ، وبعض شظايا وكسر وزنية تقوم على تفعيل الطاقة الشعرية للغة ، في تناسق أوزانها وتناسق عبارتها البعيدة عن المعاظلة ، أو تنافر حدود الجملة وتباعد أركانها الإخبارية .



الإنجاز وكثافة التركيب :

على هذا الصعيد السالف يبدو دور البعد التركيبي ظاهراً ، فعلى الرغم من غياب الوزن المنتظم يُـظهرُ التركيبُ لوناً من الدفع الإيقاعي والنغمي الفاتر والذي يصل حد الخفوت ، ولكن هذا العامل التركيبي لا يستنفذ طاقة عمله الشعرية إيقاعياً ، بل يقوم بوظيفة مهمة في تكثيف النص ، عبر قص فضوله والبعد عن تحميله بترهلات وصفية ، أو استرسال إطنابي يتيح النثر الوقوع فيه ، وهنا يقع البعد المزدوج لقصيدة النثر في تحديها للوزن وقيامها على شعرية العبارة المشحونة بحس مغاير لما هو نثري ، يقول في قصيدة ( تحليق) :

" آهاتك التي تمتصها من سجائر آلامك

فتنفثها في أحياز الصمت

تتشكل في طقوس العزلة

غيمة أحزان " ……………( ص 10)

النص يتحرك حول نواة نحوية خبرية بسيطة هي ( آهاتك تتشكل غيمة) ، ولكنها تتمدد عبر التحديد والتراكم الدال عوضاً عن الإسراف الوصفي والتعبيري ، فجملةُ الصلة والجار والمجرور والمضاف جميعاً تقوم بتحديد المعنى الشعري ولكن اعتماداً على جملة تنذر بنهاية وشيكة .

وربما لأنه حاد عن هذا المنزع الأسلوبي في بعض نصوص ( فضاء آخر ) لجأ إلى عزلها عن بقية القصائد كما مر بنا ، إذ نرى في قصيدة ( هذيان الساعة الواحدة صباحاً ) ميلاً لتجسيد الهذيان عبر التكرار والتوازي ، فتتكرر الجملة المفتاحية " الرغبة في ……. " عدة مرات متتالية بتنويع حمولتها الخبرية ، وهذا اللون التكراري حاولت قصيدة النثر التخلص منه والابتعاد عنه ، في إطار سعيها نحو مغايرة القصيدة الحرة ، ومكونها التركيبي القائم على التوازي الظاهر.


تنوع الضمائر ولعبة الترائي :
ويقبع خلف الانسجام الإيقاعي وإيجاز التركيب ملمح شعري آخر ، يكاد يكون هو العامل الذي يقوم بتوجيه وتحديد سيناريو النص لديه ، وهو محاولة ضبط زاوية الرؤية من خلال تركيز الخطاب الشعري – في النص – حول صيغة واحدة للضمير النحوي ، فبالرغم من تنويع الشاعر في استخدام ضمائر التكلم والخطاب والغيبة في نصوصه لكنه يقيم كل نص على صيغة واحدة لا تتغير .

هذا الملمح يؤدي إلى تحديد جهة النص على مستوى المعنى المباشر المستمد من النحو ، ولكن على صعيد الدلالة ثمة تحريك لمراجع الضمير في الصيغ الثلاث ، فضمير الخطاب يبدو في أغلب النصوص منعكساً على الذات الشعرية محاورًا لها ، وكأنه محض نجوى أو حديث داخلي ، في حين يبدو ضمير الخطاب منصرفاً نحو الذات أيضًا ، ولا يبقى سوى ضمير التكلم الذي يبقى مأخوذًا بصوت الذات ، فضمير الغيبة يؤول في التحليل النهائي للتعبير عن الذات الشعرية.

ولقد مر بنا في أول الدراسة نصه ( غرور ) الذي يخاطب فيه الذات عبر ضمير الغيبة راسمًا لنفسه صورة تجريدية موجزة حول البدايات وما آلت إليه الأحلام ، وفي قصيدة ( حيرة ) على سبيل المثال يعبر عن تيه الذات عبر انشطار الضمير بين الأنا الغائر والأنت الظاهر ، ليوزع نفسه نصفين بين حيرة السؤال والنهاية المجهولة ، ليقول :

ها أنت تقف بمنتصفك المرهق جدًّا

وتتمركز في حيرتك

ما بين انطلاقتك التي انصهرت في اضطراب الجهات

ونهاية مجهولة الكنه والملامح والدروب …………( ص 16 )

ويغدو الخطاب في تجليات أخر تعبيرًا عن انشطار الذات في المرايا حيث يغيب الوجه فوق صفحتها المتشظية ، يقول :

لماذا .. كلما تطل إليك من المرآة

لا تبصر وجهك ؟!

تبكي أحيانًا

عندما تشتاق إلى ملامحك المشظية بخارطة الوقت

وفقدت الخارطة هناك………..( ص 31 )

بل نراه يهدي إلى نفسه قصيدة ( يسومون آلامهم ) وكأنه يواسيها ، تلك المواساة التي عينها في القصيدة السابقة عليها التي بعنوان ( نديم الحرف ) المهداة لعلي ظافر الوادعي أو التالية لها المهداة للشيخ طاهر المجربي ، وتحمل عنوان ( الخطوة الأخيرة) أو قصيدة ( هديل الحضيف ) المهداة لها . وفي هذه القصائد نجد التكنيك الشعري القائم على قصيدة المرآة ، التي تعبر عن التوازي المتنامي بين الذات والأخر الذي تقوم برصده ، وكأن الذات الشعرية تقوم برصد الأنا العميق عبر التأمل في نماذج كأنها ردائفه ، وهذه النوعية من القصائد اعتمدت عليها حركة الحداثة في بدايتها حتى تكسر حدة الغنائية.



اللحن الطباقي للقصيدة :
وقد يوهم بروز الضمائر على هذا النحو بوجود بعد غنائي واضح ، حيث تعود كافة الضمائر نحو الضمير الشعري ، ولكن هذا الوهم يتبدد إلى حدٍّ ما ، وذلك بواسطة عمليات التنافر الداخلي والمفارقات التي تبنى عليها النصوص ، بل تكاد تكون أهم الوسائل التي يعتمد عليها الديوان في إطار بعد طباقي بين الرؤية ونقيضها مما يخلق توترًا دراميًا تخفت معه حدة الضمير الغنائي ، يقول في قصيدة ( تحليق ) :

أسافر في تضاريس المساء العتيقة

أحلق في تفاصيله

أفتش أنحاءه

لأفقأ كنهه الأزلي

لكنني

لم أبصر سوى سمائه الملبدة بالتناهيد ..…….( ص 22 )

ثمة طباق وتضاد بين مفتتح القصيدة ونهايتها ، فهي تنتهي على عكس بدايتها المسافرة نحو اقتناص قلب الليل الشعري ووهج التجربة المشدودة نحو الأبدي ، غير أنه يعود أدراجه ببصيرة لم تتجلى فيها نصاعة الرؤية بل قلب يرعش دون وصول . ولعل أداة الاستدراك ( لكن ) ساهمت في خلق هذا الطباق عبر عملها كأداة عكس للدلالة والتوجيه في مسار مضاد .


العصب الدلالي : التماهي مع العزلة والسفر إلى الصمت

وتتجلى كل تلك التقاطبات الدلالية في بؤرة واحدة تمثل العصب الدلالي لمجموعة نصوص الديوان ، ويتمثل ذلك العصب في التواشج بين تيمة العزلة وردائفها الدالة على الاغتراب والوحشة والانكفاء والغربة ، وتيمة الصمت وما تشير إليه من دلالة . وهذا الفضاء من اللقاء بين التيمتين يحفزه حضور المعاني الدالة على الحلم والأمل وغيرها ، والتي تظل دوماً بعيدة وعصية ، ومن هنا ، يستعيض بالانتظار والعزلة ويلوذ بالصمت .

وتمثل قصيدة ( على زورق الصمت ) هذا الاعتمال الكامن في الديوان بين جميع تلك المعاني والدلالات ، فيلوذ في بدايتها برحلة مع الصمت في متاهة الكشف عن تشظي الذات ، فيتجاذب تأملاته مع الصمت حول الأمنيات والحكايا والأمل وشظايا كسر الذاكرة المتداعية :

كنت وحيدًا .. . والصمت

إذ كنا نجوب آمادنا

نحرث مدارات الذاكرة ذكرى .. ذكرى

ونتهجى الغيمات القادمة إلينا

من سماوات الغيب ..

لكنني لم أكن لوحدي

بعدما طرق باب الصمت ضجيجٌ عابرٌ

وتبعثر فيه ..

كنت – وقتئذٍ – ها هنا

أتشظى في تفاصيلي الآنية ..………( ص 60 )

فالغوص عميقـًا نحو الذات يأتي صداه في صوت الصمت الداخلي والاستماع لجوانب الاعتمال التي تتداخل فيها مناطق البوح والكبت ، والنطق والسكوت ، والماضي كذكرى والحاضر والعيش فيه صمتــًا .

وتجد العزلة فضاءها السحري داخل هذا المحتوى كونها المكان الذي يهيئ لطقوس الصمت الظهور والميلاد ، حيث يتوارى خلف أدواته الشعرية ويلوي أعناق الاستفهام ويتلاشى في غرفته عن الحي ، على ما يصور نفسه في مفتتح ديوانه في قصيدة ( عزلة ) ، ولكن ما يلبث هذا الصمت أن ينفتح على معنى مضاد له ، حيث يغدو الصمت فعلاً من أفعال الرؤية الإبداعية ، وطريقة من طرق الخلاص من القوالب المعتادة شعريًّا ، يقول :

بهيئتك المنكفئة على فراش الصمت

والتي تتبرأ من أواني الشكل واللغة

تسند ما تبقى منك إلى رغبة جارفة لاقتحامك

فتتماهى بها ………………….( ص 8 )

وعلى هذا النحو يغدو الصمت طقسًا يراد به عملية المغايرة لبوح وكلام يحاول البعد عنه ، وإقامة مسافة بعيدة عنه ، ولكن هذا الصمت يغدو تارة أخرى معادلاً للسكن داخل القصيدة ، من أجل الكشف عما وراء الشعري ، والتأمل حول البعد الإبداعي ، حيث الفتنة الوحيدة :

الآن .. وقد أصبحت ُ وحيدًا داخل النص ..

سأستأذنكم ..

ولكي لا أطرق بابه ثانية

سأتحرر من إحدى نوافذه

وسأتركها مشرعة لعصافير الأفكار

ولي أنا أيضًا

حتى أتسلل إليه مرة أخرى ……..( ص 26 )

هنا يصبح الصمت وليد رغبة في الالتفاف حول الذات والتمركز حول القصيدة ومد البصر نحو الداخل ورصد تقلبات النفس الشعرية بعيدًا عن العالم الخارجي ، فتنسحب تلك الذات كي تؤكد على حضورها في الغياب .


* د . محمد مصطفى حسانين ، ناقد من مصر ، أستاذ النقد الأدبي بجامعة جازان .





نصوص بإلقائي


ألقيت هذه النصوص بحضرة عدد من الشعراء الشباب في منزل الشاعر / أحمد الوهيب يوم الثلاثاء 23 / 11 / 1433هـ




 

مجلة غيمان - أرتب فوضى سكوني



مجلة غيمان : فصلية تُعنى بالكتابة الجديدة .

نُشِرَتْ هذه النصوص في العدد الثاني عشر من مجلة غيمان تحت عنوان : أرتب فوضى سكوني . وهو عنوان مجموعتي الشعرية الأولى .
خربشات

من الثقب المهمل في زاويةِ الباب
تختالُ يرقاتُ الضوءِ
وهي تنكأ صحوي…
* * *
بقعةُ الضوء المعلقة في الجدار
سببٌ كافٍ لذبول الأفكار داخل الغرفة
إذن .. سألتمس عذراً لرحيل الفراشات…
* * *
لفافات الورق المرصعة حول المنضدة
هي الفتنة الوحيدة المتبقية
لصهيلٍ أنتظره منذ آخر مخاض…
* * *
الخربشات التي افترست نقاء الورقة
هي التقاطٌ تجريديٌ لكينونة الأرق…
* * *
الآن .. وقد أصبحتُ وحيداً داخل النص..
سأستأذنكم..
ولكي لا أطرق بَابَهُ ثانية
سأتحرر من إحدى نوافذه
وسأتركها مُشرعةً لعصافير الأفكار
ولي أنا أيضاً
حتى أتسلل إليه مرة أخرى…
عزلة
حَـتـَّامَ .. وأنتَ تلوي أعناقَ الاستفهام إليكَ
وتتوارى خلف أدواتِهِ
كما .. في غرفتكَ بـِغـَائـِر الحي ؟!
ناسكاً تـَعتـَكفُ بمحراب روحكَ
لتقيمَ أعراس طقوسِها
وتظنُّ – من أدغال عقيدتكَ –
بأنَّ صلاتـَكَ تلكَ
فريضتـُكَ السحريةُ
للانعتاقِ من فشلٍ أَلـَمَّ بك ..
رغبة
بهيئتك المنكفئة على فراش الصمت
والتي تتبرأ من أواني الشكل واللغة
تسند ما تبقى منك إلى رغبة جارفة لاقتحامك
فتتماهى بها
وعلى حافةٍ منكَ تسألُ يأسك :
- كيف سأقرأ آماد أزمنتي بنزوة عابرة؟!
وكيف سأخيط كل المساءات المنفية بالذاكرة في قطعة من مساء؟!
فتعود إليك رويداً رويدا
تلملمك للصحو حتى تستفيق لكينونتك
وتعترف بأنها كانت مجرد رغبة …
غصة
أي المواجيد سأنزف
كي أستلذ هذا التعب
وأي حرف يليق لأفض به ازدحامي
والصخب يبعثرني في متاهات الفكرة
نقاء الأبيض في الورقة يؤجلك إلى انتظارٍ آخر
بحة تردي الكلام فارغاً
غصةٌ تعيقك تماماً
فخرسٌ يمنحك الثقة في الخروج
غروب
معتكفاً بمحراب الشفق
لم تؤطر رغبتك من صلاة التأمل بعد
لكنك آمنت
أنك ستغرب ذات نهاية
وتأفل – مثلما الشموس – خلف النسيان…





 

القيسي من (ميراث الذكرى ) إلى (الهذيان)


صحيفة عكاظ  4 / 6 / 1433هـ




الكاتب : محمد الفوز
الشاعر كائن نزق، ولا يمكن أن يرتب هواجسه، ولا فوضاه، بل يزداد ارتباكا عبر الزمن ويترامى في جسد القصيدة ملتاعا ومغلولا بخطاياه التي تسكنه أكثر مما ترتضيه، كلنا نتوجع لحال الشعراء، ولكننا نبتهج بها، فكل نص شعري هو ـ في الحقيقة ـ مرآة مواربة تتفرد بملامحنا المنسية، كل من لا يعرف ذاته يتكشف عندما يهيم بقصيدة ما، أو يستمع لقول شعري، من هنا تكمن حساسية المتلقي ومن هنا تتجدد فوضى الشاعر أيضا.
لذلك أراد الشاعر أحمد القيسي عبر ديوانه (أرتب فوضى سكوني) أن يشي لنا ولذاته أولا أن لحظة الفوضى عصية على الروح وحميمة في آن،
كل هذا التضاد لا يعني أنه مصادمة بين الذات والواقع، بل هو نبش وتجريد لحالات تتباين وتختبئ أيضا، أرواح شريرة تعبث بالكائن وأرواح طيبة تعبث به كذلك، كل هذا العبث الذي يتوغل في الجسد ما هو إلا حياة ثانية بل أكثر تمر بالشاعر تحديدا عبر أطياف مرتبكة وإحساس غريب ومخيلة فادحة،
ولذلك أصبح الشاعر شاعرا، و تمايز عن غيره، وقد تبدو هذه الإحالة في نص (محطة):
«ستشعر بتضاريس الفراغ الوعرة
وستشم ذات ضجر لحظاته
وما هي إلا محطاتك للعبور إليك»

وفي نص (خربشات):
«ستفتش عنك أيها الغريب
وتسأل:
بأي الرياح تماهيت؟
وتمضي على أقدام السؤال مهاجرا
تتنكر لك الأرصفة/ وتتبرأ منك المسافات»

وفي نص (خربشات):
«الرغبات تفر من بين أصابعي
ومن كل الجهات التي أتوسطها الآن
لا طعم لها أو لون أو رائحة
كي أسند إليها هذا الملل»

هذا نص مازوخي يلوي عنق الكلمات، ويستبد بالمعنى، ولكنه في النهاية يأتي على سابقه من فراغ وعتمة حد الضياع الذي يعلك قلب الشاعر.
وفي نص (ميراث الذكرى):

«ساعتها .. أعتصر الأيام دمعة
هي إرثي من الذكرى
وآخر ما تبقى من الأغنيات»

هنا وقفة لا يمكن أن تستمر، ولا تتسمر، هذه الحالة الغامضة التي يشوبها الحزن إما أن يكون شاعرها متفائلا لدرجة الخيبة أو خائبا لدرجة الانتحار ونسيان أن هنالك ضوءا ينفجر في عين الكون ذات يأس. فما تجدي الذكرى إلا إذا لم نكن مرتهنين لواقع جديد أو غد مخاتل يمضي للهرب من زنزانة الفراغ ويرتبنا بعيدا عن الفوضى التي يمارسها القدر كما يمارس أحمد القيسي في كلماته. معظم النصوص تبدأ بجملة اسمية وهي تمثل ذروة العنفوان الشعري بينما النصوص التي تبدأ بجمل فعلية فإنها تتدرج إلى أن تصل المنتهى أو القمة، وهذه يقظة بال لدى الشاعر، لم يكن طوعا للبنى اللفظية ولا منسيا في التخييل لدرجة التوهان، كان حاضرا في نصه رغم التعب، هنالك تعمية وانطفاءة وملل في بعض المقطوعات ربما أرادها حكما على ذاته، وسقفا لتحولاته النفسية، الـ(ربما) هذه تفتح لنا سجالات نقدية لا تنتهي، كما تفرض علينا كمتلقين أن نخضع في كهف التأويل ولا نلوذ بغير الكلمات بينما هنالك إيحاء وتداعيات يمكن استشفافها ومشافهتها وصناعة حوارية معها على أكثر من مستوى وأكثر من بعد، ولذلك يقول أحمد القيسي في نص (تحرر):
«في كل اتجاه
يخدعني سراب الأبواب»
…. فقط، نظرة ناعسة ونصف ابتسامة
تكفي لاحتلالك تماما»
 

هكذا يتحرر، وهكذا ينكفئ في قيده أيضا، جميل جدا أن تراوح ذاتك لحظة الكتابة وتستعيد معمار المشيئات الخارجة عنك بأنامل مخملية، كأنك لا تريد شيئا منك، كأنك لا تريد التألق والتفاني أمام لحظتك المنكتبة على أوراق الياسمين، لذلك كله يكتب أحمد القيسي في مقاطع كثيرة ويستخدم (التسويف) هذه الـ(سوف) أيضا تشكل مفصلا مهما في تجربة الشاعر تزيد من فوضاه وتجعله بعيدا رغم اقتراب أناه. في نصه النثري يمكن الرهان على المعنى المتداول في جميع النصوص ولا أعني بذلك التكرار ولكن من حق الشاعر أن يقلب معانيه حد الاحتراق، وأن ينسجم معها حد الغياب، ولكن بعض النصوص جاءت سردية أكثر من اللازم مثل نص (هذيان الساعة الواحدة صباحا) و(حرية أم جنون .. تلك التي تبوح للمرآة) و(ارتداد .. من حديث المرايا) ولهذا تركها الشاعر في آخر كتابه ربما ليشي لنا أنه ضد التجنيس، ولكنه مع التجانس الإبداعي، وقد نغفر له كل الفوضى عندما يعترف في آخر جميلة شعرية تركها في ديوانه منذورة للعنات وفاتحة للأمل، إذ يقول «… ربما ستتسلل إلي المسرة» .



هذيان الساعة الواحدة صباحاً





جريدة المدينة - الأربعاء 18/01/2012
الرغبات تفر من بين أصابعي..
ومن كل الجهات التي أتوسطها الآن..
لا طعم لها أو لون أو رائحة
كي أسند إليها هذا الملل..
الرغبة في الاستماع إلى أغنية قديمة لأم كلثوم
الرغبة في الكتابة
الرغبة في تناول وجبة عشاء دسمة أو خفيفة
الرغبة في متابعة برنامج أو مسلسل تلفزيوني
الرغبة في قراءة رواية أو ديوان شعر أو جريدة
والرغبة في تناول كأس الشاي
الذي أصبح باردًا كحالتي هذه
و…….و……و……
كلها الآن بنكهة فارغة…
***
الأشياء من حولي تبدو مملة، كالتخمة..
تشعرني بالتقيؤ
كل الأشياء لا وصف يليق بها الآن..
حسنًا.. وماذا عساي سأفعل
سوى التمدد على فراش أنهكه جسدي الثقيل..
وتأمل اضاءات الغرفة الباهتة
وألوانها التي تذكرني بـ..بـ.. بـ..
آآآآه لم أعد أتذكر
***

هذا المساء منهك جدًا..
كمسافر استرخى للتو من رحلة طويلة..
وحتى « طلال مداح « لم يستهوني على غير عادته..
***
العنكبوت المتدلي من السقف
والذي كان فاصلًا بين قلمي وهذا السطر،
يبدو متعبًا أيضًا.
كأنه فقط تدلى ليرى ما أفعله في هذه الساعة..
ربما كان يبحث عن شيء جديد ومختلف في هذا المساء.. مثلي
ها هو الآن يتسلق خيطه ويعود..
***
الرموز على شاشة الكمبيوتر يبدو أنها بحاجة إلى تغيير أيضًا
أصبحت أحفظها تمامًا..
والإذاعة لا تبث جديدًا..
حتى الأخبار السياسية والمحلية.. تبدو مكررة..
والمواقع الالكترونية تشعرني بحالة أشبه بالغثيان…
غثيان إلكتروني.. ليس جديدًا أيضًا..
***
ما الذي سأفعله في هذه الساعة.
هل سأعيد ترميم العالم لأبدو سعيدًا
أم سأعيد ترميم ذاتي!
***
أفتح نافذة الغرفة، فتصفعني موجة البرد القارس..
الشارع العام يبدو كلوحة معلقة لم تتغير..
أو كصورة فوتوغرافية
أغلق النافذة.. والمصابيح كذلك..
علّي أجد في الظلام طريقًا معبدةً للنوم..
أو وعرة.. لا يهم كثيرًا
***
العتمة بلونها الساكن..
تذكرني بالقبور
والساكنين في الضفاف الأخرى من العالم الآخر،
هل تمنيتُ يومًا أن أكون واحدًا منهم..
هل….؟
يا إلهي.. أنا أهذي..
ربما العيش في تلك الحفر حياة مختلفة.. مختلفة تمامًا
ولكن التجربة تعني النهاية
هل أنا حقًا أبحث عن نهاية…
** *
الساعة ربما توقفت عقاربها الآن..
لم تتوقف تمامًا
ولكنها تتحرك ببطء غير ملحوظ..
يبدو أن قوة ما تشدها إلى الوراء
ولست أدري هل الوراء يعني التوقف / الموت
أو العودة للزمن الماضي ؟!
كلها سواء..
فليس في الماضي ما يدعوني للرجوع
الماضي كان موتًا بمسمى مختلف..
أو بمعنى آخر هو حياة ميتة..
***
آآآآآآآآآه أصبحت متعبًا..
سأترككم جميعًا..
نعم اعذروني.. فسأترككم
حتى هذا النص الذي ضل طريق النهاية
سأتركه هكذا بلا نهاية..






خمس قصائد قصيرة لأحمد يحيى القيسي


المشهد المصرية 13 / 11 / 2011م


القاهرة- مدحت صفوت

أحمد يحيى القيسي، شاعر سعودي شاب، من مواليد قرية ديحمة بمنطقة جازان، تخرج في كلية المعلمين قسم اللغة العربية، وهو يعمل حاليا معلما.


أصدر القيسي ديوانا واحدا بعنوان "أرتب فوضى سكوني" عن دار طوى للنشر والإعلام، كما نشر العديد من القصائد في الصحف والدوريات العربية؛ فضلا عن حصوله على جائزة "شاعر شباب عكاظ الأولى" في سوق عكاظ بالطائف عام 1430هـ.

نقدم له خمس قصائد قصيرة، وهي تحمل عناوين: غروب، غيمة، غرور، غصة، وأخيرا فراغ.

غروب

معتكفًا بمحراب الشفق
لم تؤطر رغبتك من صلاة التأمل بعد
لكنك آمنتَ
أنك ستغرب ذات نهاية
وتأفل مثلما الشموس خلف النسيان..


غيمة
آهاتكَ التي تمتصها من سجائر آلامك
فتنفثها في أحياز الصمت
تتشكل في طقوس العزلة
غيمة أحزان!


غرور

مُرهقٌ بالتمني.. وأدواته التي ساقت كل أحاديثه
حتى أنهكتها في الفراغ
كان يتكئ على خطوته الأولى
-تلك التي أثارت حوله عاصفة الكلام
حتى انتبذ من ذاته مكانا قصيا-
يفترش مساحة من غروره
ما لبث أن وطأتها سنوات الراكضين
إلى عليائهم..


غصة
أي المواجيد سأنزف
كي أستلذ هذا التعب
وأي حرف يليق لأفض به ازدحامي
والصخب يبعثرني في متاهات الفكرة
نقاء الأبيض في الورقة يؤجلك إلى انتظارٍ لآخر
بحة تردي الكلام فارغًا
غصةٌ تعيقك تمامًا
فخرسٌ يمنحك الثقة في الخروج.


فراغ

نكهة الفراغ الذي يؤطرني هذا المساء
ساذجة جدًا
إذ لم يؤثث مساحة بفتنة ما
لتختال فيها الفراشات..
حسنًا..
سأحبس أنفاس الفكرة حتى تختنق
وتموت القصيدة في مخاضها..
 
 
 
 

"أرتب فوضى سكوني" مجموعة أولى للقيسي



 
جازان : محمد الصميلي
صدرت حديثاً عن دار طوى للإعلام والثقافة والنشر المجموعة الشعرية الأولى "أرتب فوضى سكوني" للشاعر أحمد يحيى القيسي، في طبعة تتوسط غلافها الأمامي لوحة فنية للفنان التشكيلي إسماعيل صميلي. تقع المجموعة الشعرية في 87 صفحة من القطع المتوسط، وتضم بين دفتيها 36 نصاً من قصائد النثر تنوعت ما بين الطول والقصر.


ومن عناوين القصائد: عزلة، رغبة، غصة، غروب، غيمة، فراغ، محطة، هذيان، خربشات، هذيان الساعة الواحدة صباحاً، حرية أم جنون.. تلك التي تبوح للمرآة، ارتداد من حديث المرايا.
يذكر أن القيسي فاز عام 1430 بجائزة شاعر شباب سوق عكاظ.




 

شاعر لا يرتب فوضاه


صحيفة القدس العربي
الأحد 15/ 5 / 2011


 الكاتب : محمد الفوز.
الشاعر كائنٌ نزقٌ، ولا يمكن أن يُرَتب هواجسه، ولا فوضاه، بل يزدادُ ارتباكاً عبر الزمن ويترامى في جسد القصيدةِ ملتاعاً ومغلولاً بخطاياه التي تسكنه أكثر مما ترتضيه، كلنا نتوجع لحال الشعراء.ولكننا نتباركُ بها ، فكل نصِّ شعري مختطفٌ من عليين هو في الحقيقةِ- مرآة مواربة تتفردُ بملامحنا المنسية ، كل من لا يعرف ذاته يتكشَّف عندما يهيمُ بقصيدةٍ ما، أو يستمع لقول شعري، من هنا تكمن حساسية المتلقي ومن هنا تتجدد فوضى الشاعر أيضاً. لذلكَ أراد الشاعر أحمد القيسي عبر ديوانه (أرتب فوضى سكوني) أن يشي لنا ولذاته أولاً أن لحظة الفوضى عصيَّة على الروح وحميمة في آن، كل هذا التضاد لا يعني أنه مصادمة بين الذات والواقع، بل هو نبش وتجريد لحالاتٍ تتباين وتختبئ أيضاً، أرواحٌ شريرة تعبث بالكائن وأرواحٌ طيبة تعبث به كذلك، كل هذا العبث الذي يتوغل في الجسد ما هو إلا حياة ثانية بل أكثر تمرُّ بالشاعر تحديداً عبر أطيافٍ مرتبكة وإحساسٍ غريب ومخيلة فادحة، ولذلك أصبح الشاعرُ شاعراً، وتمايز عن غيره، وقد تبدو هذه الإحالة في نص (محطة):’ستشعر بتضاريس الفراغ الوعرة وستشم ذات ضجر لحظاته وما هي إلا محطاتك للعبور إليك’وفي نص (خربشات) :’ستفتش عنك أيها الغريب وتسأل:بأي الرياح تماهيت؟وتمضي على أقدام السؤال مهاجرا تتنكر لك الأرصفة/ وتتبرأ منك المسافات’بين النصين لا توجد مسافة فاصلة، هنالكَ حالة ملتبسة وزمن متشابه وأفعالٌ حائرة، كما لا يغيب الحِسُّ الدفين الذي يبني طقوساً في الذات، كما يهدمُ طقوساً أخرى سادتْ وبادتْ، وسيظل الرهانُ دوماً على الحراك والمتغير الذي نغفر له سوءة الأمل ونتحايل على أنفسنا كي نُجرَّب ونمارس ونتمـــــــاهى أيضاً.

 
وفي نص (خربشات) :’الرغبات تفر من بين أصابعي ومن كل الجهات التي أتوسطها الآن لا طعم لها أو لون أو رائحة كي أسند إليها هذا الملل’هذا نص مازوخي يلوي عنق الكلمات، ويستبدُّ بالمعنى، ولكنه في النهاية يأتي على سابقه من فراغ وعتمة حدَّ الضياع الذي يعلكُ قلب الشاعر.

وفي نص (ميراث الذكرى) :ساعتها .. أعتصر الأيام دمعة هي إرثي من الذكرى وآخر ما تبقى من الأغنيات ، هنا وقفة لا يمكن أن تستمر، ولا تتسمَّر، هذه الحالة الغامضة التي يشوبها الحزن إما أن يكون شاعرها متفائلاً لدرجة الخيبة أو خائبا لدرجة الانتحار ونسيان أن هنالكَ ضوءٌ ينفجر في عين الكونِ ذاتَ يأس . فما تجدي الذكرى إلا لم نكن مرتهنين لواقعٍ جديد أو غدٍ مخاتلٍ يمضي للهرب من زنزانة الفراغ ويرتبنا بعيداً عن الفوضى التي يمارسها القدر كما يمارس أحمد القيسي في كلماته. ربما أراد الشاعر أن يستفزنا بالفوضى وادِّعائه رتابة السكون على صدر الكلمات، فمرورٌ سريعٌ كهذا تكفيه الإشارة والتلويح إلى مستوى العزلة الكونية والإحساس بغبش الذكريات وذبول العادة وصرامة الوقت، يبدو ذلكَ في معجمه اللفظي الذي احتشدتْ به النصوص حيث تعددت كلمات مثل (الفراغ/الانتظار/التضاريس/الزمن /الذات/الدمعة /الملامح/الساعة/الغياب) ناهيك عن مرادفاتها وقد لا تغيب هذه المفردات عن باقي الشعراء أيضاً، فالجملة الشعرية لا تخلو من الخيبة والحزن عادة، ولكنها أيضاً- لا تخلو من(اللذة/الأمل/النرجسية/الميثولوجيا/الفحش/الغد/النبوءات) ولكنها غابتْ لدى أحمد، غابت كنص، وربما حضرتْ في عباراتٍ ما كانتْ مسحوقة تحت وطأة الملل أو معزولة وراء النص، إنني أتلقى النص ككتلة والديوان كروح واللحظة كشارةِ البدء والغواية كالسحاب والذات كالثرثرة.

معظم النصوص تبدأ بجملة اسمية وهي تمثل ذروة العنفوان الشعري بينما النصوص التي تبدأ بجمل فعلية فإنها تتدرج إلى أن تصل المنتهى أو القمة، وهذه يقظة بال لدى الشاعر، لم يكن طوعاً للبنى اللفظية ولا منسياً في التخييل لدرجة التوهان، كانَ حاضراً في نصه رغم التعب، هنالك تعمية وانطفاءة وملل في بعض المقطوعاتِ ربما أرادها حَكَماً على ذاته، وسقفاً لتحولاته النفسية ، الــ (ربما) هذه تفتح لنا سجالاتٍ نقديةٍ لا تنتهي، كما تفرض علينا كمتلقين أن نخضع في كهفِ التأويل ولا نلوذ بغير الكلمات بينما هنالك إيحاء وتداعيات يمكن استشفافها ومشافهتها وصناعة حوارية معها على أكثر من مستوي وأكثر من بعد، ولذلك يقول أحمد القيسي في نص (تحرر) : ‘في كل اتجاهٍ يخدعني سراب الأبواب’…. فقط، نظرة ناعسة ونصف ابتسامة تكفي لاحتلالك تماما’هكذا يتحرر، وهكذا ينكفئ في قيده أيضاً، جميل جداً أن تراوح ذاتك لحظة الكتابة وتستعيدُ معمار المشيئات الخارجة عنك بأناملَ مخملية، كأنك لا تريد شيئاً منك، كأنك لا تريد التألق والتفاني أمام لحظتك المنكتبة على أوراق الياسمين، لذلك كله يكتب أحمد القيسي في مقاطع كثيرة ويستخدم (التسويف) هذه الــ (سوف) أيضا تشكل مفصلاً مهماً في تجربة الشاعر تزيدُ من فوضاه وتجعله بعيداً رغم اقترابِ أناهُ.
 
في نصه النثري يمكن الرهان على المعنى المتداول في جميع النصوص ولا أعني بذلك التكرار ولكن من حق الشاعر أن يُقلَّبَ معانيه حدَّ الاحتراق، وأن ينسجم معها حدَّ الغياب، ولكن بعض النصوص جاءت سردية أكثر من اللازم مثل نص (هذيان الساعة الواحدة صبــــــــاحا) و(حرية أم جنون .. تلك التي تبوح للمرآة) و(ارتداد .. من حديث المرايا) ولهذا تركها الشاعر في مؤخرة كتابه ربما ليشي لنا أنه ضدَّ التجنيس، ولكنه مع التجانس الإبداعي، وقد نغفر له كل الفوضى عندما يعترف في آخر جميلةٍ شعرية تركها في ديوانه منذورة للعنات وفاتحة للأمل، إذ يقول ‘… ربما ستتسلل إليَّ المسرَّة’ رغم أني أكره سين التسويف يا أحمد إلا أنك توبخنا أكثر مما يجب بما عندما تُحيلنا إليك بنبرةٍ متناهية، وكأنك تهربُ منا، من قرَّاءٍ يضعون التمائم على ياقة القصيدةِ كي لا تبوح إلا للشعراء، فمن لا يهذي في حضرة الشاعر لن تغسله الأزمنة بالجراحات ولن تتكـــــــثفَ على رئتيه خمرة الندامى.
 
 
 

الشاعر وقصيدته.. متعبان


جريدة الإتحاد الإماراتية

 21 أبريل 2011

الكاتب : محمد خضر


وفق الشاعر أحمد يحيى القيسي في منح مجموعته الشعرية الأولى والصادرة حديثا عنوان: “أرتب فوضى سكوني”، حيث الشاعر هو ذلك الطائر الذي لايكف عن الرحيل من مكان لآخر، عن البحث في عالمه ونسج العش الذي يمكن أن يكون قصيدة، لايكف عن التنقل هنا وهناك في هدأته وسكونه ومن الجنوب حيث ولدت قصائده في فوضى الترحال وميلاد الأسئلة والشعور بغربة الشاعر الخاصة أمام عالم معقد وفي غالب الوقت ليس شعريا بما يكفي مع كل التحديات التي تواجه شاعر اليوم..

من هنا يكتب القيسي قصيدته متخداً من تلك الذاتية العميقة وأسئلته الخاصة طريقة كي يرتب تلك الفوضى. ففي قصيدته “عزلة” يقول القيسي: “حتامَ وأنت تلوي أعناق الاستفهام إليك، وتتوارى خلف أدواته، كما في غرفتك بغائر الحي؟”، أو وهو يبوح ويتجلى في نص عنوانه “غيمة”: “آهاتك التي تمتصها من سجائر آلامك فتنفثها في أحياز الصمت، تتشكل في طقوس العزلة غيمة أحزان”، وعلى الغلاف الخلفي للمجموعة حيث يكتب من قصيدة “انكفاء”: “مقيم بغيابي وكلما حاولت الرحيل من مدائن ذاكرتي ألتقيتك عند آخر المنعطف فأعود لأرتب فوضى أزمنتي من جديد”.

ولعل هذا الهاجس الذي يلازم المجموعة هو هاجس يشترك فيه الكثير من شعراء اليوم، في ثيمات العزلة والفقد والحزن، حسب مفاهيمها المختلفة من تجربة لأخرى، لكن سنلاحظ أنها لدى القيسي في هذه المجموعة قد نضجت كحالة وتجربة حتى انكتب النص مليئا بتلك الومضات الخاطفة التي تختزل المعنى وتقدمه كقصيدة، علاقتها مع الجمالي ومع اللغة وثيقة ومتجذرة، وتجسد متخيلا أقرب إلى الواقع على الأقل. فالشاعر لايبوح بكل شيء بل هو يشتغل على نصه وعلى أدواته وبالكثير من الحذر والمغامرة في آن، لذا نجحت التجربة في أن تقدم جديدا نستطيع أن نعثر عليه وهو يتجول بنا في مضامينه المختلفة بل وحالته الشعورية في بعض القصائد التي تحمل دلالة خاصة أكثر في تجربة الحياة كنص “الخطوة الأخيرة” الذي أهدي إلى رجل راحل، أو نص آخر يهدى إلى كاتبة راحله (هديل الحضيف)، وكأن القصيدة لدى الشاعر أحمد القيسي هي لحظة حاسمة في الحياة والموت وبين الحزن والفقد والألم والذكريات والحيرة والصمت والكلمات والحب تدور عوالمه في جزء المجموعة الأول الذي ينتهي بنص “على زورق الصمت” حيث يقول: “كنت والصمت نفضح زيف المسافات التي اغتلتها ذات ضجر بخنجر مسمومة ثم.. ذوبتها في دلالات المستحيل، كنا حين نمشط الحكايا ونجدل ظفائرها.. ننزلق بوحل أحداث تتفرع من خصلاتها السرمدية، نتعثر في التقاطاتها مشهدا مشهدا، وموقفا موقفا حتى نعبر الفصل الأخير، فيتهيأ المرسى محطة لانزلاق آخر”.


ومع أن هذا الجزء من المجموعة كما هو واضح من هذه القصيدة مكثف العبارة ومقتصد، ويعتني بلغته أكثر حيث السكون ظل علامة تضيء حتى أناقة العبارة، إلا أن هذا لم يحدث في النصف الآخر من المجموعة حيث النص النفس الطويل، ولم يكترث الشاعر فيه بتوليد نفس تلك الدهشة المختزلة في عبارات قصيرة، بل كان الاسترسال أحيانا يخرج القصيدة إلى حالة من التداعي المزدان باللغة الجمالية والتي وقعت في سردية محضة بدون أدوات الشعر في بعض أسطرها، ولعل هذا يتجلى في نص “هذيان الساعة الواحدة صباحا”، ونص “حرية أم جنون تلك التي تبوح للمرآة”.. يقول في أحد المقاطع: “فمتى سأبوح بحبر خال من نكهة المجاملة والكذب أو النفاق الاجتماعي كما يزعمون” أو غيرها من المقاطع. وفي الجزء الأخير الذي يحتوي على نصين عنوانه “فضاء آخر”، ربما أراد الشاعر أن يبعث إشارة إلى فضاء مختلف في أدواته وفي مساحاته التي يذهب إليها ليتقصى ويختبر حالته من جديد، حيث النص أكثر مغامرة وجرأة وأكثر قراءة للصلة الواقعية مع ثيمات حياته.


مجموعة “أرتب فوضى سكوني” تعكس مشوار الشاعر ومكابدته ورغبته في اجتياز العادي والمكرور حتى يصل إلى المعنى المبتكر، وضمن شكل شعري حديث، بل هو هاجس نقرأه في إحدى قصائده: “متعب أنت.. والقصيدة متعبة أيضا”، وفي نص “غصة” حيث يقول: “أي حرف يليق لأفض به ازدحامي”، وفي قصيدة “فنجان أرق” حيث: “تتشكلين من مفردات القصيدة لتنفثي في خفوها الوهج”، وكما هي القصيدة الجديدة قصيدة اجتراح لأقاصي الأمكنة والمضي نحو مكاشفة للذات وبلغة بسيطة وغير معقدة مكترثة لليومي والمعاش بطريقتها، صدرت هذه المجموعة الأولى للشاعر السعودي أحمد القيسي واختار فيها أن يرتب فوضى سكونه في فضاءات وعوالم مسكونة بالبحث عن لحظة شعرية مختلفة.



 

الإغتراب في أحياز الصمت بنادي جازان الأدبي



ضمن برنامج اللقاء النصف الشهري لنادي جازان الأدبي عـقـدت مساء الاثنين الموافق 16 / 4 / 1432هـ جلسة نقدية محورها مجموعة (أرتب فوضى سكوني ) للشاعر الشاب أحمد يحيى القيسي ، قدم الورقة الرئيسية الناقد الدكتور/ محمد حسانين أستاذ النقد الأدبي بجامعة جازان ، وشارك في الحوارالشاعر/ محمد حبيبي والشاعر/ إبراهيم زولي والناقد / اسماعيل مهجري وأدار اللقاء الناقد /سمير جابر.

بعد ذلك فتح باب النقاش مع الورقة الرئيسية ، وقد شارك في النقاش الأديب /عمر طاهر زيلع نائب رئيس النادي الأدبي والشاعر / أحمد الحربي رئيس النادي الأدبي .

وكان عنوان الورقة النقدية التي قدمها الدكتور محمد مصطفى الحسنين " الاغتراب في أحياز الصمت " .






 
 
 
 
 
 


  الصورة والرؤية في قصيدة الهايكو "تجربة الأديبة التونسية هدى حاجي أنموذجا" مجلة اليمامة، العدد ٢٧٦٢ الخميس ٨ يونيو ٢٠٢٣م لقراء...