مجلة سيسرا الثقافية
العدد التاسع ذو الحجة 1433هـ - أكتوبر 2012م
د.محمد مصطفى حسانين *
في كثير من الأحيان ترتبط الخطى الأولى ، والبدايات
الممهدة في ميدان الإبداع ببعض التلعثم والقفز في الهواء ، أو كثرة الفجوات التي
تتخلل البناء المنجز في المرحلة المبكرة ، حيث الرؤية الغضة تناوشها بعض أوهام
العبور المكتمل لشاطئ النص المختلف ، وفي ديوانه الأول " أرتب فوضى سكوني " ، يبدو
الشاعر السعودي الشاب أحمد يحيى القيسي ، وهو يحاول تجاوز العثرات المرتبطة
بالبدايات ، كما يبدو ، في اللحظة نفسها ، بعيدا عن غرور القفز في الفراغ ، وإن كان
بين القطبين يبدو متوجساً قلقاً ومغترباً ، أو هو مرهق بالتمني في خطابه الشعري ،
يقول:
مرهق
بالتمني … وأدواته التي ساقت كل أحاديثه
حتى
أنهكتها في الفراغ
كان
يتكئ على خطوته الأولى
- تلك التي أثارت حوله عاصفة الكلام
حتى
انتبذ من ذاته مكاناً قصيا -
يفترش
مساحة من غروره
ما لبثت
أن وطأتها سنوات الراكضين
إلى
عليائهم ……………….( ص 15 )
يتجاوز القيسي العثرات الأولى للكتابة الشعرية ، عبر ما نلحظه من محاولة التماس الضروب الأقرب إلى الوضوح أكثر من البحث في متاهات القول ، وكأنه تخير الطرق الآمنة ملاذا لصوغ عزلته ، وبالرغم من بساطة لغته ، تنطوي نصوصه على مكون شعري نابض ، تتدفق فيه انسيابياً عواطف وأحاسيس وتأملات ما تزال تحتفظ ببكارة السؤال فيها ، بالرغم من إحاطتها أحياناً بالمباشرة والتبيين دون المواربة .
ولعل ما يؤكد محاولة القيسي مجاوزة البدايات المتلعثمة
هي قدرته الإبداعية على حسم قراره النوعي ، بانحيازه لنوع شعري ليس على الدوام موضع
ترحيب ، فضلاً عن كون قصيدة النثر – كما هو معروف – ليست النوع الشعري الذي يمكن
لشاعر في بداية طريقه أن يراهن عليه بهدف الصعود والظهور عبر المحافل والاحتفاليات
، التي تستحوذ عليها القصيدة العمودية برصيدها الشفوي وجهازها التعبيري
المصاحب.
ويأتي اختيار القيسي لعبارة شعرية مكثفة دليلاً آخر على
تخطي عثرة البداية ، فعبارته موجزة ومتوازنة بين الكثافة والشفافية ، أي بين الوضوح
حيث ينتحر المعنى أو الغموض حيث اختناقه ، وبجانب ذلك ، نجد قدرته على بناء عالم
شعري على بساطته يبدو متماسكاً ، وتلم جوانبه تيمات وحوافز دلالية متقاربة ، فضلاً
عن انتمائها لموضوعات متواشجة مرجعياً ، فلا تبدو بين قصائده فجوات واسعة أو
انعطافات مفاجئة تخل بطبيعة المجموع . ولعل وعيه بهذا الجانب ، هو ما جعله يفصل
مجموعة القصائد الختامية من ديوانه عما سبقها فجعلها تحت عنوان " فضاء آخر" ، مما
يبرهن على الحس الواعي بعملية الاختيار .
وهو ما جعله مرة أخرى ينشر قصائده تحت مسمى " شعر" لكون
هذا الفضاء المغاير يخل ببنية الديوان على الأقل أسلوبياً .
انسجام إيقاعي :
وبالرغم من تبني القصائد للنسق النثري وابتعادها عن
العروضي والوزني ، ثمة رغبة واضحة في الديوان تكاد تشي بنفسها من أول وهلة ، تتمثل
في القبض على وتر إيقاعي غائر في بنية عبارته ، يجلوه التناسق التركيبي بين
العبارات وانسجام مفرداتها ، بعيداً عن جلب المفردات القلقة أو التقابلات الحادة
المفاجئة أو الانتقالات العابرة ، أو الاعتماد على الاندفاع النحوي لتراكيب مبتورة
، وغياب تلك النتوء عن جسد العبارة الشعرية يعطيها قدراً من التواتر والبساطة التي
تشعر بانسياب الكلام في الزمن دون تعقد ، ومما يرشح تلك الجمل إيقاعياً هو بعدها عن
التفريع والتراكم وميلها نحو القصر .
وأحياناً ينبثق الإيقاع اعتماداً على كسر الانتظام الوزني
لنسق التفعيلة المعتاد في تتابعه ، والميل به نحو كسور وزنية ، ولكنها تمتلك
إيقاعاً يقوم على ما يشبه المزج التفعيلي ، ويظهر ذلك البعد بخاصة في عملية التناوب
والتبادل بين تفعيلتي المتدارك والمتقارب ( فاعلن – فعولن ) أو العكس ، وهو تكنيك
لجأت إليه قصيدة النثر في بداياتها وما لبثت أن تخطته سريعاً ، ويمكن أن نجد هذا في
كثير من نصوصه ، يقول :
- من الثقب المهمل في زاوية
الباب
تختال
يرقاتُ الضوء
وهي
تنكأ صحوي ….……….( ص25)
- يا لصوتك حين يسري منبعثاً من تضاريس
الزمن
لحناً
شجياً تعزفه الذاكرة من ناي عتيق
ليغمرني
خشوعاً…….( ص 48 )
بقدر يسير من التأمل يمكن رؤية بقايا إيقاعية لتفعيلة
فعولن في تناوبها مع فاعلن ، وبعض شظايا وكسر وزنية تقوم على تفعيل الطاقة الشعرية
للغة ، في تناسق أوزانها وتناسق عبارتها البعيدة عن المعاظلة ، أو تنافر حدود
الجملة وتباعد أركانها الإخبارية .
الإنجاز وكثافة التركيب :
على هذا الصعيد السالف يبدو دور البعد التركيبي ظاهراً ،
فعلى الرغم من غياب الوزن المنتظم يُـظهرُ التركيبُ لوناً من الدفع الإيقاعي
والنغمي الفاتر والذي يصل حد الخفوت ، ولكن هذا العامل التركيبي لا يستنفذ طاقة
عمله الشعرية إيقاعياً ، بل يقوم بوظيفة مهمة في تكثيف النص ، عبر قص فضوله والبعد
عن تحميله بترهلات وصفية ، أو استرسال إطنابي يتيح النثر الوقوع فيه ، وهنا يقع
البعد المزدوج لقصيدة النثر في تحديها للوزن وقيامها على شعرية العبارة المشحونة
بحس مغاير لما هو نثري ، يقول في قصيدة ( تحليق) :
" آهاتك
التي تمتصها من سجائر آلامك
فتنفثها
في أحياز الصمت
تتشكل
في طقوس العزلة
غيمة
أحزان " ……………( ص 10)
النص يتحرك حول نواة نحوية خبرية بسيطة هي ( آهاتك تتشكل
غيمة) ، ولكنها تتمدد عبر التحديد والتراكم الدال عوضاً عن الإسراف الوصفي
والتعبيري ، فجملةُ الصلة والجار والمجرور والمضاف جميعاً تقوم بتحديد المعنى
الشعري ولكن اعتماداً على جملة تنذر بنهاية وشيكة .
وربما لأنه حاد عن هذا المنزع الأسلوبي في بعض نصوص ( فضاء
آخر ) لجأ إلى عزلها عن بقية القصائد كما مر بنا ، إذ نرى في قصيدة ( هذيان الساعة
الواحدة صباحاً ) ميلاً لتجسيد الهذيان عبر التكرار والتوازي ، فتتكرر الجملة
المفتاحية " الرغبة في ……. " عدة مرات متتالية بتنويع حمولتها الخبرية ، وهذا اللون
التكراري حاولت قصيدة النثر التخلص منه والابتعاد عنه ، في إطار سعيها نحو مغايرة
القصيدة الحرة ، ومكونها التركيبي القائم على التوازي الظاهر.
تنوع الضمائر ولعبة الترائي :
ويقبع خلف الانسجام الإيقاعي وإيجاز التركيب ملمح شعري آخر
، يكاد يكون هو العامل الذي يقوم بتوجيه وتحديد سيناريو النص لديه ، وهو محاولة ضبط
زاوية الرؤية من خلال تركيز الخطاب الشعري – في النص – حول صيغة واحدة للضمير
النحوي ، فبالرغم من تنويع الشاعر في استخدام ضمائر التكلم والخطاب والغيبة في
نصوصه لكنه يقيم كل نص على صيغة واحدة لا تتغير .
هذا الملمح يؤدي إلى تحديد جهة النص على مستوى المعنى
المباشر المستمد من النحو ، ولكن على صعيد الدلالة ثمة تحريك لمراجع الضمير في
الصيغ الثلاث ، فضمير الخطاب يبدو في أغلب النصوص منعكساً على الذات الشعرية
محاورًا لها ، وكأنه محض نجوى أو حديث داخلي ، في حين يبدو ضمير الخطاب منصرفاً نحو
الذات أيضًا ، ولا يبقى سوى ضمير التكلم الذي يبقى مأخوذًا بصوت الذات ، فضمير
الغيبة يؤول في التحليل النهائي للتعبير عن الذات الشعرية.
ولقد مر بنا في أول الدراسة نصه ( غرور ) الذي يخاطب فيه
الذات عبر ضمير الغيبة راسمًا لنفسه صورة تجريدية موجزة حول البدايات وما آلت إليه
الأحلام ، وفي قصيدة ( حيرة ) على سبيل المثال يعبر عن تيه الذات عبر انشطار الضمير
بين الأنا الغائر والأنت الظاهر ، ليوزع نفسه نصفين بين حيرة السؤال والنهاية
المجهولة ، ليقول :
ها أنت
تقف بمنتصفك المرهق جدًّا
وتتمركز
في حيرتك
ما بين
انطلاقتك التي انصهرت في اضطراب الجهات
ونهاية
مجهولة الكنه والملامح والدروب …………( ص 16
)
ويغدو الخطاب في تجليات أخر تعبيرًا عن انشطار الذات في
المرايا حيث يغيب الوجه فوق صفحتها المتشظية ، يقول :
لماذا
.. كلما تطل إليك من المرآة
لا تبصر
وجهك ؟!
تبكي
أحيانًا
عندما
تشتاق إلى ملامحك المشظية بخارطة الوقت
وفقدت
الخارطة هناك………..( ص 31
)
بل نراه يهدي إلى نفسه قصيدة ( يسومون آلامهم ) وكأنه
يواسيها ، تلك المواساة التي عينها في القصيدة السابقة عليها التي بعنوان ( نديم
الحرف ) المهداة لعلي ظافر الوادعي أو التالية لها المهداة للشيخ طاهر المجربي ،
وتحمل عنوان ( الخطوة الأخيرة) أو قصيدة ( هديل الحضيف ) المهداة لها . وفي هذه
القصائد نجد التكنيك الشعري القائم على قصيدة المرآة ، التي تعبر عن التوازي
المتنامي بين الذات والأخر الذي تقوم برصده ، وكأن الذات الشعرية تقوم برصد الأنا
العميق عبر التأمل في نماذج كأنها ردائفه ، وهذه النوعية من القصائد اعتمدت عليها
حركة الحداثة في بدايتها حتى تكسر حدة الغنائية.
اللحن الطباقي للقصيدة
:
وقد يوهم بروز الضمائر على هذا النحو بوجود بعد غنائي واضح
، حيث تعود كافة الضمائر نحو الضمير الشعري ، ولكن هذا الوهم يتبدد إلى حدٍّ ما ،
وذلك بواسطة عمليات التنافر الداخلي والمفارقات التي تبنى عليها النصوص ، بل تكاد
تكون أهم الوسائل التي يعتمد عليها الديوان في إطار بعد طباقي بين الرؤية ونقيضها
مما يخلق توترًا دراميًا تخفت معه حدة الضمير الغنائي ، يقول في قصيدة ( تحليق )
:
أسافر
في تضاريس المساء العتيقة
أحلق في
تفاصيله
أفتش
أنحاءه
لأفقأ
كنهه الأزلي
لكنني
لم أبصر
سوى سمائه الملبدة بالتناهيد ..…….( ص 22
)
ثمة طباق وتضاد بين مفتتح القصيدة ونهايتها ، فهي تنتهي
على عكس بدايتها المسافرة نحو اقتناص قلب الليل الشعري ووهج التجربة المشدودة نحو
الأبدي ، غير أنه يعود أدراجه ببصيرة لم تتجلى فيها نصاعة الرؤية بل قلب يرعش دون
وصول . ولعل أداة الاستدراك ( لكن ) ساهمت في خلق هذا الطباق عبر عملها كأداة عكس
للدلالة والتوجيه في مسار مضاد .
العصب الدلالي : التماهي مع العزلة والسفر إلى الصمت
وتتجلى كل تلك التقاطبات الدلالية في بؤرة واحدة تمثل
العصب الدلالي لمجموعة نصوص الديوان ، ويتمثل ذلك العصب في التواشج بين تيمة العزلة
وردائفها الدالة على الاغتراب والوحشة والانكفاء والغربة ، وتيمة الصمت وما تشير
إليه من دلالة . وهذا الفضاء من اللقاء بين التيمتين يحفزه حضور المعاني الدالة على
الحلم والأمل وغيرها ، والتي تظل دوماً بعيدة وعصية ، ومن هنا ، يستعيض بالانتظار
والعزلة ويلوذ بالصمت .
وتمثل قصيدة ( على زورق الصمت ) هذا الاعتمال الكامن في
الديوان بين جميع تلك المعاني والدلالات ، فيلوذ في بدايتها برحلة مع الصمت في
متاهة الكشف عن تشظي الذات ، فيتجاذب تأملاته مع الصمت حول الأمنيات والحكايا
والأمل وشظايا كسر الذاكرة المتداعية :
كنت
وحيدًا .. . والصمت
إذ كنا
نجوب آمادنا
نحرث
مدارات الذاكرة ذكرى .. ذكرى
ونتهجى
الغيمات القادمة إلينا
من
سماوات الغيب ..
لكنني
لم أكن لوحدي
بعدما
طرق باب الصمت ضجيجٌ عابرٌ
وتبعثر
فيه ..
كنت –
وقتئذٍ – ها هنا
أتشظى
في تفاصيلي الآنية ..………( ص 60
)
فالغوص عميقـًا نحو الذات يأتي صداه في صوت الصمت الداخلي
والاستماع لجوانب الاعتمال التي تتداخل فيها مناطق البوح والكبت ، والنطق والسكوت ،
والماضي كذكرى والحاضر والعيش فيه صمتــًا .
وتجد العزلة فضاءها السحري داخل هذا المحتوى كونها المكان
الذي يهيئ لطقوس الصمت الظهور والميلاد ، حيث يتوارى خلف أدواته الشعرية ويلوي
أعناق الاستفهام ويتلاشى في غرفته عن الحي ، على ما يصور نفسه في مفتتح ديوانه في
قصيدة ( عزلة ) ، ولكن ما يلبث هذا الصمت أن ينفتح على معنى مضاد له ، حيث يغدو
الصمت فعلاً من أفعال الرؤية الإبداعية ، وطريقة من طرق الخلاص من القوالب المعتادة
شعريًّا ، يقول :
بهيئتك
المنكفئة على فراش الصمت
والتي
تتبرأ من أواني الشكل واللغة
تسند ما
تبقى منك إلى رغبة جارفة لاقتحامك
فتتماهى
بها ………………….( ص 8 )
وعلى هذا النحو يغدو الصمت طقسًا يراد به عملية المغايرة
لبوح وكلام يحاول البعد عنه ، وإقامة مسافة بعيدة عنه ، ولكن هذا الصمت يغدو تارة
أخرى معادلاً للسكن داخل القصيدة ، من أجل الكشف عما وراء الشعري ، والتأمل حول
البعد الإبداعي ، حيث الفتنة الوحيدة :
الآن ..
وقد أصبحت ُ وحيدًا داخل النص ..
سأستأذنكم ..
ولكي لا
أطرق بابه ثانية
سأتحرر
من إحدى نوافذه
وسأتركها مشرعة لعصافير
الأفكار
ولي أنا
أيضًا
حتى
أتسلل إليه مرة أخرى ……..( ص 26
)
هنا يصبح الصمت وليد رغبة في الالتفاف حول الذات والتمركز
حول القصيدة ومد البصر نحو الداخل ورصد تقلبات النفس الشعرية بعيدًا عن العالم
الخارجي ، فتنسحب تلك الذات كي تؤكد على حضورها في الغياب .
* د . محمد مصطفى حسانين ، ناقد من مصر ، أستاذ النقد الأدبي بجامعة جازان .